حين انطلق طوفان الأقصى، لم يتوقف أثره عند غزة، بل دفع أولى قطع الدومينو في الشرق الأوسط، لتسقط إحداها في دمشق بسقوط نظام الأسد. من هناك، انطلقت سلسلة تغيّرات تمس توازنات الإقليم، وتعيد رسم المشهد السياسي من إيران إلى تركيا، ومن اليمن إلى لبنان ومصر والأردن والعراق.
في هذا التقرير الصادر عن موقع "أسباب" لدراسات الجيوسياسية، مستنداً إلى مفهومي تأثير الدومينو وتأثير الفراشة ليفكك مشهد 2025، موضحاً كيف يقود حدثٌ واحد إلى تفاعلات متشابكة، تتجاوز المنطق الخطي إلى ديناميكيات معقدة، تصنع فرصاً للبعض وتهديدات لآخرين.
سقوط نظام الأسد وتأثير الدومينو
يشير مفهوم "تأثير الدومينو" (Domino Effect) إلى سلسلة من الأحداث التي تنجم عن حدث أولي، إذ يؤدي كل حدث إلى الذي يليه، كما تتساقط قطع الدومينو واحدة تلو الأخرى عند دفع القطعة الأولى. وبالرغم من أن المفهوم له تطبيقات عدة في مجالات السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والإدارية، إلا أن نشأة المفهوم جاءت من خلفية سياسية إذ استخدمه الرئيس الأمريكي السابق "أيزنهاور" خلال الحرب الباردة لتبرير تدخل الولايات المتحدة في فيتنام، وأشار إلى تخوفات واشنطن من أن سقوط فيتنام في أيدي الشيوعيين قد يخلق "تأثير الدومينو" في جنوب شرق آسيا.
إن سقوط نظام الأسد لا يمثل تغييرا جذريا محليا في سوريا فحسب، بل يشكل نقطة تحوّل في توازنات القوى في الشرق الأوسط، بعدما تراجع النفوذ الإقليمي لبعض الجهات الفاعلة الإقليمية، بينما سعت جهات أخرى إلى ملء الفراغ، ووجدت قوى أخرى نفسها في موقف متحفظ خشية انتقال عدوى التغيير إليها.
واستناداً إلى مفهوم "تأثير الدومينو"، فإن انهيار النظام السوري نفسه هو قطعة دومينو سبق أن حركها طوفان الأقصى وحرب غزة. أي إن تفاعلات الحدثين متداخلة لا محالة، بما يفتح المجال أمام موجة من التغيرات الجيوسياسية الواسعة في المنطقة والتي لا تعني بالضرورة انهيار أنظمة أخرى بشكل مباشر، لكنه يخلق ديناميكيات جديدة قد تدفع بعض الدول إلى إعادة حساباتها الداخلية والخارجية، أو قد تؤدي إلى تصاعد صراعات كانت كامنة، أو تشكيل تحالفات جديدة، أو حتى بروز فاعلين جدد على الساحة.

وهكذا، فإن "تأثير الدومينو" ليس إلا حالة فرعية من الظاهرة الأوسع لتأثير الفراشة (The Butterfly Effect). وهو مفهومٌ نشأ من نظرية الفوضى في الرياضيات والأرصاد الجوية، ويُنسب إلى عالم الأرصاد الجوية إدوارد لورنز في ستينيات القرن الماضي. والذي يشير باختصار إلى فكرة أن التغييرات الطفيفة في الظروف الأولية يمكن أن تؤدي إلى نتائج مختلفة تمامًا في الأنظمة المعقدة، كما أن رفرفة جناحي الفراشة في البرازيل، قد تسبب إعصارًا في تكساس. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم نشأ من العلوم الطبيعية، إلا أنه استُخدم على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات الدولية، لفهم العواقب غير المقصودة للأحداث البسيطة أو التي تبدو غير مهمة، ويُسلّط الضوء على حدود فاعلية التفكير الخطي في عالم معقد وفوضوي ومترابط.
ويفيدنا مفهوم تأثير الفراشة عند الأخذ بأن التداعيات ليست كلها سلبية بالضرورة كما أنها تكون غير متوقعة، وغير مرتبطة مباشرة بالحدث الأصلي، وغير خطية، وذلك بخلاف ما يوحي به تأثير الدومينو الذي يميل أكثر لإثارة احتمال أن الحدث يتكرر تباعا ويكرر النمط الأساسي بصورة أقرب ما تكون إلى الخطية.
وهكذا، فإن تداعيات قرار الطوفان غير المتوقعة وغير الخطية تتشكل نتيجة تفاعل سلوك الأطراف، وصراع مصالحهم، وترابط النسيج الإقليمي، وقد تجلت في نتائج غير مخطط لها وغير مقصودة من قبل مخططي عملية طوفان الأقصى. فمثلا، بينما كانت تستهدف معركة الطوفان توحيد جهود محور المقاومة كداعم رئيسي، فإن نتائجها الراهنة هي إضعاف هذا المحور بصورة استراتيجية من خلال إضعاف حزب الله وسقوط نظام الأسد. لكنّها في المقابل عززت من تأثير الحوثيين إقليميا. كذلك؛ أدى التغيير في سوريا إلى تعزيز نفوذ تركيا إقليميا بل وتعزيز حكم الرئيس أردوغان محليا، وهي نتائج لم تكن ضمن أهداف مخططي عملية طوفان الأقصى، ولا حتى من أهداف الحرب الإسرائيلية على غزة وحزب الله.
تركيا: تعزيز النفوذ الإقليمي ومكاسب للعدالة والتنمية
تعد تركيا هي الرابح الإقليمي الأكبر من التغيرات في سوريا، خاصة وأنها تمثل نصرا واضحا في صراع النفوذ طويل الأمد مع إيران. وفي المنظور الأوسع، ليس من المبالغة اعتبار التغيير في سوريا إضافة لأوراق تركيا في معادلة تنافسها المعقدة مع روسيا. بالإضافة لذلك، فقد تسبب انهيار نظام الأسد في إضعاف وحدات حماية الشعب الكردية والقوات التابعة لها (قسد) التي تسيطر على الأجزاء الشمالية في سوريا كامتداد لحزب العمال الكردستاني (PKK).
وفي ظل التفاهمات المتوقعة مع الولايات المتحدة بشأن سوريا، فإن تركيا ستكون قد ضمنت القضاء على تهديد قيام حكم ذاتي كردي في شمال سوريا، وهو أمر يغير مجمل ديناميات ملف التمرد الكردي في جنوب تركيا. ومن ثم فإن مسار المصالحة التركية الكردية محليا، والذي كان قد بدأت إرهاصاته بالفعل في أكتوبر الماضي، يكون قد تلقى دفعة إيجابية كبيرة على وقع التغيير في سوريا.
بخلاف غالبية الأطراف الإقليمية، فإن حركة قطعة الدومينو في تركيا تحمل فرصا وليس تهديدات. فقد وضعت المعادلة السورية الجديدة تركيا في قيادة هيكل أمن إقليمي ناشئ يشمل العراق وسوريا والأردن ولبنان، يستهدف ضبط الحدود والتصدي لخطر استعادة تنظيم داعش نشاطه. كما باتت تركيا هي الضامن الأمني لاستقرار سوريا في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وهو ما يخلق معادلة غير مسبوقة قد تكون فيها القوات التركية في حالة تماس مع الجيش الإسرائيلي، بما يمنح أنقرة مزيدا من الأوراق في مواجهة تل أبيب.

وبالإضافة للمكاسب الجيوسياسية، فإن واحدة من التداعيات غير المتوقعة قد تكون إطالة حكم الرئيس التركي أردوغان. إذ جنى أردوغان أرباح رهانه طويل الأمد على دعم فصائل المعارضة السورية مما يساهم في تعزيز وضع حزب العدالة والتنمية الحاكم داخلياً، خاصة مع العودة المحتملة لما يزيد عن ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وكذلك فإن تموضع أنقرة في موقع الفاعل الرئيسي في إعادة إعمار سوريا سينعكس على أداء الاقتصاد التركي، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما شهدت شركات البناء التركية ارتفاع أسهمها بعد سقوط الأسد مباشرة تحسباً لأنها ستكون في طليعة إعادة إعمار سوريا.
وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية التي تمثل التحدي الأبرز محليا للحزب الحاكم، فإن مسار المصالحة مع الأكراد الذي عززته التغيرات في سوريا قد ينتج عنه تغيرا جذريا في التحالفات الحزبية بما يمكن العدالة والتنمية من المضي قدما في مشروع تعديل الدستور أو كتابة دستور جديد، أو على الأقل وضع نهاية لتحالف حزب الشعب الجمهوري مع الأكراد، وهو التحالف الذي بات يمثل تهديدا لمستقبل الحزب الحاكم.
إيران: انحسار النفوذ الإقليمي والحاجة لعقيدة ردع جديدة
مثّل انهيار نظام الأسد إلى جانب الهزيمة التي تعرض لها حزب الله، تقويضاً لنفوذ إيران وقوتها في المنطقة، وخسارة لمكتسبات إيرانية تراكمت على مدار العقدين الماضيين. حيث عزز الموقع الجيواستراتيجي لسوريا النفوذ العسكري الإيراني، خاصة وأنه قد وفّر جسراً برياً استراتيجياً بين إيران وحزب الله، الأمر الذي مكّن الأخير من امتلاك ترسانة ضخمة من الصواريخ وجعله بمثابة خط الدفاع الأول لإيران ضمن استراتيجية "الردع الأمامي".
كما كشفت العمليات العسكرية بين إيران و"إسرائيل" خلال حرب غزة عن التفوق العسكري للكيان، وتجلى ذلك بوضوح بعد أن أدت الضربات التي وجهها الاحتلال إلى إيران في أكتوبر/تشرين أول الماضي إلى تقويض الدفاعات الجوية الإيرانية وقدرات إنتاج الصواريخ بشكل كبير.
لا ينتج عن خسارة سوريا قطع خطوط إمداد حزب الله وبالتالي تعطيل أداة الردع الإيرانية الأساسية في مواجهة "إسرائيل" فقط، لكن أيضا نتج عن انهيار نظام الأسد تدمير الاحتلال ما تبقى من قدرات الدفاع الجوي السوري، ما يعني أن الأجواء السورية باتت مفتوحة تماما للطيران الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أن الدفاعات السورية لم تكن تمثل سابقا أي عائق للطائرات العسكرية الإسرائيلية المتطورة، فإنها كانت تمثل تهديدا لطائرات التزود بالوقود اللازمة لإمداد الطائرات العسكرية إذا تحركت لشن هجمات في الأجواء الإيرانية. ما يعني أن الطيران الحربي الإسرائيلي تغلب على عقبة رئيسية كانت تحد من قدرته على شن هجوم واسع دون الاعتماد على دعم أمريكي.
على الرغم من أن خيار إدارة ترامب الأول هو إجبار إيران على التفاوض عبر فرض عقوبات صارمة، أكثر تشددا من عقوبات فترة رئاسته السابقة، ما زالت احتمالات التوصل لاتفاق أمريكي إيراني محدودة جدا؛ نظرا لأن ترامب لا يتفاوض على البرنامج النووي فحسب، وإنما يضع أيضا على الطاولة برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وعلاقة طهران بوكلائها في المنطقة.
أي إن ترامب يريد من الجمهورية الإسلامية الاستسلام وليس التراجع التكتيكي، أي أن تتخلى طوعا عن كل استراتيجيتها الدفاعية الأساسية: الوكلاء كخط دفاع أمامي، والصواريخ البعيدة المدى، وأخيرا الردع النووي. وهو أمر ليس من المرجح قبول طهران به بغض النظر عن الضغوط الاقتصادية القاسية. وتمثل استقالة جواد ظريف مساعد الرئيس الإيراني رسالة واضحة على تراجع فرص التفاهم مع الولايات المتحدة.

لذلك؛ فإن الخيار العسكري ليس مستبعدا. وقد يُغري ضعف إيران الحالي الرئيس الأمريكي بتوجيه ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية، خاصة وأن الضغوط الإسرائيلية واضحة في هذا الصدد. ومع ذلك فإن إقدام ترامب على هذه الخطوة يمكن أن يعرض منطقة الشرق الأوسط بأكملها لمخاطر كبيرة، ويطلق المزيد من تأثير الدومينو في المنطقة. وبالنظر إلى الوضعية الجديدة لإيران بعد أن فقدت خطوطها الأمامية وتراجع نفوذها في المنطقة؛ فإن أي تهديد من "إسرائيل" وأمريكا للمصالح الحيوية لطهران، سيجعل الأخيرة في وضع "الزاوية" ويدفعها إلى الاعتماد على قدراتها العسكرية التقليدية والرد بشكل مباشر.
وفي هذه الحالة سيكون من المرجح أن تستخدم إيران استراتيجية "التصعيد من أجل التهدئة" عبر مهاجمة المنشآت النفطية وتعطيل الشحن البحري في الخليج العربي ومضيق هرمز، وذلك بهدف حشد جهود خفض التصعيد من جانب الدول الخليجية المصدرة للنفط والغاز وكذلك الصين والهند واليابان باعتبارهما من كبار مستوردي الطاقة من الدول الخليجية.
في مواجهة هذه التهديدات؛ سرّعت إيران بالفعل من خطوات تطوير برنامجها النووي خلال الأشهر الأخيرة. وتشير الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أنه في نوفمبر الماضي، كان مخزون إيران من الوقود المخصب بنسبة 60٪ كافيا لإنتاج أربع قنابل نووية على الأقل في فترة وجيزة، والعديد من القنابل الأخرى في غضون أشهر. وعموما تقدر الوكالة بأن طهران تحتاج فقط إلى أسابيع للانتقال من مستوى تخصيب 60٪ إلى مستوى 90٪ اللازم لصنع قنبلة. والأهم من ذلك؛ ما أشار إليه مسؤولون أمريكيون لصحيفة نيويورك تايمز في فبراير/شباط، بأن طهران تفكر في خطة طارئة بديلة تتلخص في تصميم قنبلة نووية بدائية لكنّها تظل فتاكة، وذلك لاختصار الزمن الذي تتطلبه عملية تصنيع قنبلة متطورة تركب على صاروخ باليستي.
والخلاصة هي: تحركت قطعة الدومينو بصورة مباشرة لتزيح نفوذ إيران من سوريا، لكن ليس من المؤكد بعد ما إذا كانت حركة القطعة التالية ستحمل ضربة عسكرية لإيران، أم ستعلن امتلاك طهران قنبلة نووية باعتبارها فرصة الردع الأخيرة؟
اليمن: هل يكون الحوثيون قطعة الدومينو التالية؟
برزت جماعة "أنصار الله" (الحوثيون) كقوة صاعدة في "محور المقاومة" الإيراني منذ السابع من أكتوبر 2023، إذ تضاعفت قدرات الحوثيين الصاروخية وأصبحت أكثر فاعلية في تهديد المصالح الإسرائيلية التجارية، فضلا عن عدم قدرة التحالف البحري المدعوم من واشنطن على تحييد تهديدات الجماعة بشكل فعال، على الأقل حتى نهاية عهد بايدن. وقد ساهمت ضربات الحوثيين للسفن والأهداف الإسرائيلية في تعزيز شرعيتهم محليا، كما ظهرت الجماعة كجهة فاعلة تتخطى الساحة اليمنية وتمارس دورا مؤثرا في الإقليم، الأمر الذي قد يدفع إيران إلى زيادة دعمها للحوثيين تعويضاً عن خسائر محور المقاومة في سوريا ولبنان.
لا شك أن تنامي قوة الحوثيين سيظل محل قلق دول الخليج التي ترى في تحول الجماعة إلى قوة لا يستهان بها تهديدا مباشرا لأمنها. كما أن العلاقات الخاصة التي تطورت بين الحوثيين وكل من روسيا والصين تضعها في بؤرة التهديدات المحتملة للمصالح الغربية التجارية بغض النظر عن حرب غزة. في المقابل؛ فإن نهج إدارة بايدن الحذر مع الحوثيين والذي لم يُثبت فاعليته، حفّز ترامب على إطلاق حملة عسكرية جوية أكثر صرامة، في منتصف مارس/آذار، لتقويض قدرات الحوثيين وقطع الإمدادات البحرية والبرية التي تزود الجماعة بالأسلحة الإيرانية، وهي حملة سبقها قرار ترامب بإدراج الحوثيين على قائمة المنظمات الإرهابية.
ومع ذلك؛ تدرك واشنطن أن إلحاق هزيمة حاسمة بالحوثيين لن يكون سهلا ولا سريعا وذلك بسبب صعوبة التضاريس والطبيعة القبيلة في اليمن والتي باتت جزءا من تحالفات الحوثيين. ومن ثم فإن تقويض قدرات الحوثيين، وإنهاء موقعهم كأحد أنشط وكلاء إيران يتطلب عملية عسكرية برية واسعة تقوم بها القوات اليمنية الموالية للسعودية والإمارات.

وعلى الرغم من أن هذه القوات غير موحدة ومتصارعة فيما بينها، إلا أن جهودا تبذل مؤخرا من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا لتحسين قدراتها وتأهيلها كي يمكنها هزيمة الحوثيين، لكن ما زالت حدود تلك الهزيمة غير مؤكدة، ومن المحتمل أن تقتصر على إحباط قدرتهم على تهديد الملاحة ومن ثم التركيز على انتزاع الحديدة من سيطرتهم. بينما تقف السعودية في حالة تردد بين حاجتها لاغتنام الفرصة الدولية والتخلص عسكريا من وكيل إيران على حدودها الجنوبية، وبين القلق من تبعات مثل هذه العملية التي ستضع الأراضي والمنشآت الحيوية السعودية مجددا في مرمى استهداف الحوثيين.
ثمة أعداء كثر للحوثيين يرون الفرصة سانحة للتحرك ضدهم ودفع قطعة الدومينو باتجاه اليمن، لكن ليس من المؤكد أن خيارهم نهائيا، خاصة أن رد فعل حلفاء الحوثيين يجب أن يؤخذ في الاعتبار. من جهة أخرى، قد لا يكون الحوثيون في مقدمة الأولويات الدولية حاليا، وقد تحرك المصالح الدولية، خاصة الأمريكية، قطعة دومينو أخرى، بما يمنح الحوثيين مزيدا من الوقت لإعادة حساباتهم.
العراق: بين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان نفوذ إيران
يواجه العراق تحديات بارزة بسبب الأوضاع الجيوسياسية المتغيرة بعد سقوط الأسد؛ فبينما تبدو إيران أضعف وقابلة للتراجع أمام الضغوط الأمريكية، فإن العراق سيكون ساحة أساسية لممارسة هذه الضغوط. قد يدفع هذا إلى إعادة النظر في الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق والمخطط له أن يتم بحلول سبتمبر/أيلول من العام الجاري.
إذ تتخوف واشنطن من أن الفراغ الذي قد يخلفه رحيل قوات التحالف سيمنح إيران والجماعات الموالية لها فرصة لتعزيز نفوذها وتعويض ما فقدته في سوريا. وبينما من المرجح أن يواصل ترامب تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق فإنه سيحافظ على تواجد عسكري كاف لمواجهة جهود إيران لاستعادة نفوذها الإقليمي.
ستمارس الولايات المتحدة ضغوطا على الحكومة العراقية لتجبرها على الحد من علاقاتها مع طهران، وضمان عدم خرق العراق للعقوبات على إيران. ومن المرجح أن تتخذ واشنطن تدابير اقتصادية صارمة لتقويض نفوذ الجماعات والشخصيات العراقية المدعومة من إيران، وعلى رأسها الحشد الشعبي. وسيكون من المتوقع أن تتخذ طهران في المقابل نهجا يرتكز على تجنب المواجهة في العراق، وأن يواصل حلفاؤها تجنب التعرض للضربات الأمريكية بوقف الكثير من أنشطتهم وتقليص انتشارهم العسكري في البلاد، لتجنب إثارة القوات الأمريكية.

ومع هذا لا تنذر هذه التفاعلات بتحرك حاسم لقطعة الدومينو في بغداد. فبينما قد يفضي التغير في سوريا على المدى البعيد إلى تعزيز مكانة السنة في العراق وزيادة فرص استعادة التوازن في مواجهة سياسات الهيمنة الشيعية السائدة، فليس من المرجح أن ينتج عن هذا تقويض نفوذ الشيعة بصورة عامة، أو أن يضع حدا للنفوذ الإيراني على غرار سوريا. وبينما قد تشهد الانتخابات النيابية في نهاية العام الجاري تراجعا للتحالف الموالي لإيران، تحت الضغوط الأمريكية، إلا أن هذا لن يغير بالضرورة طبيعة النظام السياسي الذي يهيمن عليه الشيعة.
لبنان: تراجع حزب الله وسباق إقليمي ودولي لاستعادة النفوذ
بالرغم من الخسائر التي تكبدها حزب الله في الحرب إلى جانب سقوط نظام الأسد، فإنه لا يزال يتمتع بقدرات قتالية معتبرة، كما أن نفوذ الحزب في المجتمع والنظام السياسي اللبناني من الممكن إعادة ترميمه لكن بمزيد من الوقت. ومع ذلك فإن خسائر حزب الله الاستراتيجية لا يمكن تجاهلها، فقد شكّل فقدان الطريق البري لتوريد الأسلحة والإمدادات الإيرانية عبر سوريا ضربة حاسمة لاستعادة عافية الحزب عسكريا.
كما لم يتمكن الحزب من ممارسة أي نفوذ واضح على العملية السياسية الناشئة في لبنان سواء اختيار الرئيس أو ترشيح رئيس الوزراء، والأسوأ من ذلك انهار التحالف السياسي لحزب الله مع معظم الفصائل المتحالفة معه سابقاً وعلى رأسهم التيار الوطني الحر، ما تسبب في تقويض الغطاء السياسي العابر للطائفية والذي استخدمه الحزب منذ فترة طويلة للمشاركة السياسية. وعلى المستوى الاجتماعي فإن صعوبة تلقي تمويلات كافية ستلقي بظلالها على قدرة الحزب على إعادة الإعمار وتعويض حاضنته الشعبية.
انعكست الانتكاسات التي تعرض لها حزب الله على المؤسسات الحزبية التقليدية في لبنان والتي بادرت إلى تعزيز نفوذها داخلياً مع تحول خطابها السياسي نحو نزع سلاح الحزب كمسألة مركزية ستشغل الحياة السياسية اللبنانية في المدى القريب، خاصة وأن الوجود المستمر لإسرائيل في جنوب لبنان والضغوط الأمريكية المشددة سيحفزان القوى الداخلية السياسية إلى ممارسة الضغوط على الحزب للتخلي عن الترسانة المتبقية شمال الليطاني.

خلقت التحولات الإقليمية، خاصة في سوريا، بيئة جديدة يفتقر فيها حزب الله إلى الامدادات والقدرات التي كان يتمتع بها قبل بدء الحرب على قطاع غزة، مما يجعل استعادة مكانته في المستقبل المنظور أمرا غير مرجح. وربما سيتجه الحزب في الأمد القريب إلى تحويل معظم جهوده إلى الشؤون الداخلية لترميم صفوفه والحفاظ على ما بقي من نفوذه السياسي والإبقاء على فرص التواجد الفعال في الانتخابات البرلمانية المقبلة في مايو 2026، والتي ستكون مؤثرة إلى حد كبير في إعادة رسم خريطة القوى السياسية في لبنان.
الأردن: الفرص تتساوى مع التهديدات
منح سقوط نظام الأسد الأردن فرصة التخلص من شبكات تهريب الأسلحة والمخدرات والمجموعات الموالية لإيران التي كان يستخدمها النظام السوري على طول الحدود بين البلدين. ومع ذلك تتخوف المملكة من عملية الانتقال المحفوفة بالمخاطر في سوريا واحتمالات التعثر وما يمكن أن يصاحبها من موجة نزوح جديدة وتهديدات أمنية متجددة للأردن. بالإضافة إلى التأثير المحتمل لوصول هيئة تحرير الشام والفصائل الإسلامية إلى السلطة في سوريا والذي قد يؤدي إلى تشجيع الحركات الإسلامية في الأردن وفي مقدمتها الإخوان المسلمين؛ مما يزيد من الضغوط الشعبية على السلطة السياسية وسط حالة الاضطرابات التي شهدها الشارع الأردني في أعقاب السابع من أكتوبر.
من المتوقع أن تركز الأردن جهودها في تعزيز أمن الحدود مع سوريا ومراقبة أنشطة بقايا الجماعات المسلحة الموالية لإيران أو العودة المحتملة لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وهو أمر سيكون قادة دمشق الجدد وتركيا شركاء فيه. وعلى الصعيد الداخلي، ستواصل المملكة جهودا تتنوع بين الاحتواء وتصعيد القمع للجهات الفاعلة وخاصة جبهة العمل الإسلامي (الإخوان المسلمين).
بينما ستسعى عمّان إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية، إذ تمثل العودة التدريجية لما يزيد عن مليون لاجئ سوري إلى بلادهم تخفيفا لبعض الضغوط الاقتصادية المحلية، وكذلك فإن استعادة العلاقات التجارية والاقتصادية مع سوريا ستعني إعادة تفعيل المسارات البرية الحيوية بين البلدين والتي تنقل الصادرات من أوروبا وتركيا إلى دول الخليج، كما أن المساهمة في جهود إعادة الإعمار ستمثل رافداً آخر لدعم الاقتصاد الأردني.

ومع هشاشة الوضع الاقتصادي للبلاد، والتحديات المتنوعة بما في ذلك إجراءات حكومة نتنياهو المتطرفة في الضفة الغربية، فإن تحرك قطع الدومينو نحو الأردن تبدو مسألة تثيرها الرغبات أكثر من كونها تستند لجهود قائمة بالفعل. فما زال النظام مدعوما من قبل الولايات المتحدة بصورة واسعة، كما أنه يستند لقاعدة دعم عشائرية قوية، في المقابل لا تتبنى القوة المعارضة الرئيسية، والتي تمثلها جبهة العمل الإسلامي، مشروعا لتغيير النظام أو الثورة عليه، وقد أظهرت بصورة عامة توجها رافضا لدعوات الصدام مع النظام على خلفية حرب غزة.
مصر: تعقيدات جيوسياسية وتهديدات لاستقرار النظام
يرتبط استقرار النظام السياسي في مصر إلى حد كبير باستمرار الدعم الخارجي ومواصلة النظام هيمنته الأمنية الصارمة، ولا يبدو أن التغير الهائل في المشهد السوري قد تسبب في تغيير أي من هذين العاملين على الأقل في المدى القريب. وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ باندلاع انتفاضة شعبية مماثلة لتلك التي أطاحت بنظام مبارك في 2011، فإن الأزمات البنيوية السياسية والاقتصادية تعزز احتمالات تصاعد الاضطرابات والاحتجاجات العامة، مما قد يهدد حالة الاستقرار الهشّة للنظام في المستقبل المنظور.
سلطت الحرب الإسرائيلية على غزة الضوء على طبيعة العلاقات الأمريكية مع مصر باعتبارها ركيزة أساسية للسياسة الإقليمية لواشنطن، وكذلك فإن الولايات المتحدة والعديد من الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية باتت تنظر إلى استقرار مصر في الوقت الراهن باعتباره عاملا حاسما لتحقيق الاستقرار والتوازن الإقليمي. ومع ذلك لا تزال مصر تواجه تحديات إقليمية معقدة تمس مصالحها الحيوية بشكل مباشر بما يشمل الصراع الحالي في السودان والأزمة الليبية والصراع في القرن الأفريقي، إلى جانب التهديدات التي خلقتها الحرب المدمرة على قطاع غزة، خاصة مخطط التهجير والتوتر مع الاحتلال الإسرائيلي؛ مما أدى إلى خلق بيئة جيوسياسية غير مستقرة بالإضافة إلى احتمالات تزايد موجات النزوح عبر الحدود المصرية وهو ما يعني ضغوطا أمنية وتكاليف اقتصادية.

وفي حين ساهمت المساعدات الاقتصادية التي تلقتها مصر مؤخراً من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، والاستثمارات الكبرى من الإمارات العربية المتحدة في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد؛ ومع ذلك فإن غياب أي ملامح لاتخاذ مصر سياسات اقتصادية غير تلك التي اتبعتها في السنوات الأخيرة يدفعنا لترجيح تكرار الأزمات الاقتصادية وتفاقمها في المدى القريب.
ليبيا.. روسيا قد تحول تركيزها لجنوب المتوسط
بالرغم من أن التغير الجيوسياسي في سوريا مثل انتكاسة لروسيا ولكن الأخيرة جعلت منه نقطة انطلاق لمواصلة التحول الذي بدأت فيه قبل عام من سقوط الأسد عبر تحويل قوات وأسلحة إلى شرق ليبيا، وهو الأمر الذي زادت وتيرته بعد انهيار نظام الأسد، إذ أرسلت روسيا معدات عسكرية من قاعدة حميميم السورية إلى قاعدتي الخادم والجفرة الليبيتين.
ويشير هذا الواقع العسكري الجديد إلى تعميق محتمل للعلاقات بين موسكو والجنرال خليفة حفتر الذي تسيطر قواته على شرق ليبيا. وتستهدف موسكو من هذا التحول العسكري إلى جنوب البحر المتوسط، استخدام ليبيا كجسر إلى أفريقيا ومنصة لتزويد قوات فيلق أفريقيا (وريث مجموعة فاغنر) المنتشرة في جميع أنحاء أفريقيا، وهو جزء من استراتيجية أوسع لموسكو لتعزيز نفوذها داخل القارة، خاصة في منطقة الساحل وعلى ساحل البحر الأحمر في السودان.

لا تزال البيئة الأمنية في ليبيا غير مستقرة إلى حد كبير بسبب الخلافات حول الوصول إلى موارد البلاد المالية، والتي تفاقمت في الأشهر الأخيرة بعد تصاعد الصراع حول السيطرة على البنك المركزي الليبي. وبالنظر إلى الانقسام الذي ترسخ بين شرق البلاد وغربها، والذي يرافقه ميل الأطراف الإقليمية المعنية بتثبيت الوضع الراهن، فإن الوصول إلى تسوية سياسية في الأمد القريب سيظل أمرا غير مرجح. ولكن إعادة التركيز الروسي في ليبيا قد تحفز تحركات غربية مضادة لتقويض هذا النفوذ، وربما ضغوط أمريكية على الفرقاء الليبيين للحد من الانقسامات والعمل معا لإضعاف النفوذ الروسي في ليبيا، مما يهدد بتجدد العمليات العسكرية في البلاد.
0 تعليق