عندى ألف اعتراض واعتراض على اختيارات رسمية كثيرة فى مصر ، ربما الاستثناء الأبرز فى تطوير المجمع العسكرى ، والسعى الرسمى الدائب لإحداث طفرة كبرى فى تسليح الجيش ، وعلى نحو يمزج بين تنويع مصادر السلاح والتصنيع العسكرى الذاتى ، تنويع مصادر السلاح اختيار وطنى تاريخى ، يعود لحقبة الخمسينيات وبزوغ نجم "جمال عبد الناصر" أعظم قادة مصر والعرب المعاصرين ، وتجديد اختيار التنويع جرى منذ عشر سنوات ، بعد أن أثبتت التجربة العملية فساد الاعتماد الأحادى على التسليح الأمريكى ، وحرص واشنطن على توريد سلاح أمريكى من الدرجة الثانية والثالثة والأقل كثيرا إلى مصر ، وحتى تضمن تفوق كيان الاحتلال المطلق على كافة الجيوش العربية ، وأبرزها الجيش المصرى الأول عربيا وأفريقيا ، وصاحب المكانة البارزة المتفوقة فى ترتيب جيوش العالم .
وعلاقات السياسة والسلاح مفهومة ، ربما لذلك ، وبالتوازى مع كسر الاحتكار الأمريكى للتسليح المصرى ، جرت تطورات أخرى ، أهمها كسر محرمات فى السياسة الخارجية ، وفى علاقات مصر مع الكبار على خرائط الدنيا المتسعة ، وعلى نحو بدا براجماتيا هادئا متراكما ، كانت نتيجته إلى الآن ، تخفيض الاعتماد على واشنطن ، وكسر أسقف الخصوصية التبعية فى العلاقات المصرية الأمريكية ، وإقامة شراكات استراتيجية موازية مع دول كبرى فى أوروبا ، ومع روسيا العائدة عسكريا إلى حلبة التنافس على القمة الدولية ، ومع الصين المتحدية لأحادية القطبية الأمريكية ، والزاحفة بإطراد إلى عرش العالم فى السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا ، وفيما كان التوجه إلى روسيا نوعا من الاستعادة لذكريات باهرة مع موسكو "السوفيتية" ، فقد كان التوجه إلى الصين نوعا من الالتحاق بالعصر وتغيرات خرائطه ، صحيح أن مصر كانت سباقة إلى علاقات مبكرة مع صين "ماوتسى تونج" ، وكانت القاهرة أول عاصمة عربية وأفريقية تعترف بالصين الشعبية أواسط خمسينيات القرن العشرين ، واقترنت مصر مع الصين والهند وأندونيسيا ويوغسلافيا وأطراف أخرى فى ظاهرة دولية مؤثرة جدا وقتها ، عرفت باسم "الحياد الإيجابى" وعدم الانحياز إلى أى من القطبين الأمريكى والسوفيتى وقتها ، كما جرى الاقتران فى سباقات التنمية والتصنيع الدائرة وقتها فيما كان يعرف باسم العالم الثالث ، وكانت معدلات التنمية فى مصر وقتها أكبر من نظيرتها فى الصين الشعبية ، ومن دون أن تشهد مصر انفلاتات ومجاعات كالتى صاحبت "الثورة الثقافية" فى الصين ، لكن تاريخ النهوض المصرى الأعظم تاريخيا ، شهد انكسارا وتراجعا بعد النصر فى حرب أكتوبر 1973 ، ودخلت الحالة المصرية فى أفول طويل المدى ، لاتزال آثاره ظاهرة إلى اليوم ، رغم الإفاقة المصرية النسبية على حقائق العصر العالمى الجديد ، الذى كانت ولا تزال الصين أعظم شواهده وروافعه ، كان العالم مع نهاية سبعينيات القرن العشرين ، يمر ـ فيما نرى ـ بانتقال من عصر "تحدى الغرب" إلى عصر "تجاوز الغرب" ، بعد أن مرت شعوب الدنيا شرقا وجنوبا بعصر سواد دامس تعاقبت فيه قرون ، كانت "سيادة الغرب" عنوانه ومتنه منذ سقوط "غرناطه" واكتشاف الأمريكتين ، وإلى زمن الإمبريالية الأوروبية ، واستعمار واستنزاف جنوب العالم وشرقه ، ثم إلى زمن ازدهار فتوحش الإمبريالية الأمريكية بعد ما عرف باسم "الحرب العالمية الثانية" ، وبزوغ نجم حركات ونظم التحرر الوطنى ، التى كانت "مصرعبد الناصر" واحدة من أهم مراكزها المضيئة المفعمة بروح التحدى ، وبعد انقلاب الاختيارات عقب حرب أكتوبر ، خرجت مصر من تاريخ العالم الناهض ، الذى انتقل من عصر "تحدى الغرب" إلى "تجاوز الغرب" ، والمقصود بالتجاوز هنا ، هو حيازة ذات الدرجة من القوة المادية والتقنية التى احتكرها الغرب لقرون ، ثم السباق معه وتجاوزه ، وهو ما تحقق بجلاء فى الصين بعد رحيل "ماوتسى تونج" ، وتبنى سياسات نهوض ديناميكية جديدة ، قفزت بالعالم الصينى إلى الأمام مرات خطفت الأبصار ، وحققت الصين فى أربعة عقود ، أكثر مما حققه الغرب كله فى خمسة قرون ، وإلى درجة كاد معها العالم كله يصبح صينيا ، فقد صارت الصين هى صانع العالم وتاجره الأول ، وكان طبيعيا أن تصبح الصين المثال الملهم لمن تخلفوا عن الركب ، وعادوا إلى قعر التخلف التاريخى من أمثالنا ، فقد كانت الصين وإلى عهد ليس ببعيد ، تعيش ظروفنا نفسها وأسوأ ، وهو ما حاولت مصر وغيرها تلمسه ، فليس من مستقبل أفضل لمصر ، سوى أن تسعى ـ فيما نرى ـ لتكون "صين" عالمها العربى والأفريقى ، وهى تبدو مؤهلة لذلك بإيحاءات تاريخ ليس ببعيد ، وإن كان من بيدهم الأمر رسميا فى مصر اليوم ، يحاولون تلمس الأمر على نحو براجماتى تماما ، وفى مجالات لصيقة بطبيعة وبنية الحكم الراهن ، فالصين هى الشريك التجارى الأول لمصر بنحو 18 مليار دولار سنويا ، والصين تنازلت عن بعض ديونها لمصر المثقلة بالديون الخارجية ، والصين حولت أخيرا ثمانية مليارات دولار من الديون إلى استثمارات فى مصر ، وتوالى العمل فى منطقتها الصناعية الكبرى على الشاطئ الغربى لقناة السويس ، ومع خروج الصين الظاهر من كمونها الاستراتيجى لعقود ، ومد نفوذها السياسى والعسكرى بالتدريج ، كان التسليح العسكرى المصرى يغتنى بموارد صينية متزايدة ، وبالذات مع تكلفة السلاح الصينى الأرخص عالميا على تفوقه التكنولوجى ، وسخاء الصين فى نقل وإتاحة تكنولوجيا السلاح ، وهكذا شهدنا قفزات منظورة فى علاقات السلاح ، وفى مجالات كثيرة لم يكشف عن أغلبها ، وإن كانت العناوين المعروفة ظاهرة فى مغزاها ، من أول التعاون فى توطين صناعة طائرات التدريب ، إلى نقل تكنولوجيا الطائرات المسيرة "الدرونز" من "وينج لونج ـ 1" إلى "وينج لونج ـ 2" وغيرها ، وإلى نظام الدفاع الجوى الصينى المتطور بعيد المدى "HQ-9B" ، وحتى مقاتلات الجيل الخامس "J-10c" ، التى حجبت واشنطن مثيلاتها عن مصر ، وضغطت لمنع توريد "سو ـ 35" الروسية إلى مصر رغم سابقة التعاقد ، ثم تطور التعامل العسكرى المصرى الصينى إلى ذروته الرمزية ، مع إقامة أول مناورات جوية مشتركة مؤخرا فى مصر تحت عنوان "نسور الحضارة" ، وجاء العنوان موحيا ، فمصر والصين صاحبتا أقدم حضارتين فى التاريخ الإنسانى ، وقامت فيهما أول دولتين مركزيتين فى بواكير رحلة العمران البشرى ، و"النسر المصرى" هو عنوان وقلب علم جمهورية مصر العربية ، التى شهدت الحدث الفريد الأول من نوعه وأطرافه فى منطقتنا .
وفى معايير اللحظة اللاهثة ، دخل التسليح الصينى لمصر ، ومن قبله التسليح الروسى المستعاد لمصر ، دخل التسليح الجديد إلى قلب الجدال الصاخب المشتعل ، وبالذات من قبل دوائر كيان الاحتلال "الإسرائيلى" الإعلامية فالرسمية ، وعلى نحو أكثر خفوتا فى الكواليس من قبل الدوائر الأمريكية المعنية ، فواشنطن تخشى تفلت مصر من القيود المفروضة عليها منذ عقد ما تسمى "معاهدة السلام" المصرية "الإسرائيلية" ، و"إسرائيل" تخشى عودة الروح إلى الجيش المصرى ، الذى ظل ثابتا على عقيدته القتالية الوطنية ، المؤمنة بأن الخطر الرئيسى على مصر يأتى أولا من الشرق ، من زمن "الهكسوس" إلى كيان الاحتلال ، وبالذات مع تغير خرائط وجود الجيش على أرض سيناء ، التى تبلغ مساحتها وحدها (61 ألف كيلومتر مربع) ، أى أكثر من ضعف مساحة فلسطين التاريخية (27 ألف كيلومتر مربع) ، وتريد "إسرائيل" تهجير الفلسطينيين إليها بحسب خطة الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ، التى ترفضها مصر الشعبية والرسمية ، وتعتبرها تصفية كاملة للقضية الفلسطينية ، وخطرا يهدد الأمن الوطنى المصرى ، وقد لا تبادر مصر إلى حرب مع "إسرائيل" فى المدى المباشر ، لكن لا أحد يضمن تجنب الحرب فى المدى الأبعد ، فوجود "إسرائيل" فى ذاته ، يظل خطرا على الوجود المصرى فى ذاته ، وقد كانت حروب مصر كلها دفاعية ، والحرب المقبلة ـ إن جرت ـ ستكون دفاعية عن التراب والسيادة المصرية ، وهو ما يبرر التسلح الدائم للجيش المصرى ، وبالذات مع تصاعد العدوانية والهمجية الوحشية "الإسرائيلية" ، المستندة إلى جدار الشراكة مع دعم أمريكى بلا حدود ، فثمة اندماج استراتيجى بين أمريكا وكيان الاحتلال ، وهما معا شركاء أصليون فى جرائم الإبادة الجارية لأهل فلسطين فى "غزة" ، وفى حروب التوسع والتهام الأراضى فى سوريا وفى لبنان ، وقد يمتد الخطر ذاته إلى الأردن فمصر ، وقد كانت مصر تاريخيا هى حائط الصد الأخير ضد غزوات التتار والصليبيين ، وليس من طرف غيرها يملك مؤهلات النهوض بالدور اليوم وغدا ، وأيا ما كان النظام الذى يحكم ويقرر ، فإن محنة فلسطين قضية مصرية وطنية قبل وبعد أبعادها القومية العربية والإسلامية ، وفى مدى الاختبار الطويل لصبر مصر ، تبدو مصر عازمة على طلب العلم والتكنولوجيا والسلاح والحكمة ، ولو من الصين البعيدة بالجغرافيا ، القريبة فى هم التحرر والتقدم والتوحيد القومى .
هوى مصر "الصينى" - بلد نيوز

هوى مصر "الصينى" - بلد نيوز
0 تعليق